(مرض النبي صلى الله عليه و سلم) ويوم الخميس، وما أدراك ما يوم الخميس؟!
يوم زار المرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ذكر هذا اليوم شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: بأبي هو وأمي
زاره المرض يوم الخميس. نعم، بأبي هو وأمي، وليت ما أصابه أصابنا، فإن مصابه رزية على كل مسلم، ولكن
رفعاً لدرجاته وتعظيماً له عند مولاه.
ذكر ابن كثير بسند جيد قال: كان ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يقلب الحصى في المسجد الحرام ويقول: [يوم
الخميس، وما يوم الخميس -وهو يبكي- يوم زار المرض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم].
فديناك من حب وإن زادنا كرباً فإنك كنت الشمس في الشرق أو غربًا
وكان الصحابة يفدونه صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: {خرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد وعاد وهو معصوب الرأس، فتقول عائشة - وقد فجعت رضي الله
عنها وأرضاها-: {وارأساه!{ فقال صلى الله وسلم: (بل أنا وا رأساه) وصدق صلى الله عليه وسلم، فإن صداع
الموت قد وصل إلى رأسه الشريف.
انظروا عباد الله هذا حال نبينا عليه الصلاة والسلام عند مرض موته، وهو أكرم خلق الله على الله، فما بالنا نحن،
وفينا ما فينا، الله المستعان.
ثم لما أحس صلى الله عليه وسلم بدنو الأجل كما عند البخاري في الجنائز من حديث عقبة بن عامر قال: {خطبنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما وصل الشهداء في أحد، فسلَّم عليهم سلام المودع، ثم قال: (يا أيها الناس: والله
ما أخاف عليكم الفقر، ولكن أخاف أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)}
وصدق عليه الصلاة والسلام، فو الله ما قطعت أعناقنا إلا الدنيا، وما أفسد ديننا إلا الدنيا، وما ذهب بأخلاقنا وآدابنا
إلا الدنيا...
و عند أحمد في المسند بسند حسن عن أبي مويهبة قال: قال لي صلى الله عليه وسلم في الليل الدامس: (يا أبا
مويهبة! أسرج لي دابتي)، فأسرجت له دابته عليه الصلاة والسلام، فركبها فذهبت معه حتى أتى الشهداء في أحد،
فسلَّم عليهم سلام المودع، وقال: (أنا شهيد عليكم أنكم عند الله شهداء)، ثم قال: (يا أبا مويهبة! خيرت بين البقاء
وأعطى مفاتيح خزائن الدنيا وبين لقاء الرفيق الأعلى)، قال: أبو مويهبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله! خذ مفاتيح
الدنيا، وأطل عمرك في الدنيا ما استطعت، ثم اختر الرفيق الأعلى، فقال عليه الصلاة والسلام: (بل الرفيق
الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)}.
انظروا إليه عليه الصلاة والسلام وهو في مرض موته يعلم أمته الدروس الوجيزة المفيدة، وخلاصة تلك الحياة
العامرة في الدعوة لدين الله تبارك وتعالى والتي يصل بها العبد إلى أعلى المراتب الإيمانية ومن هذه الدروس:- 1-عدم الركون إلى الدنيا والتنافس عليها لأنها أهلكت من قبلنا.
2-أن من يحب الله جل وعز يكون دائما في اشتياق إلى لقائه، و(من أحب لقاء الله أحب الله لقائه).
3-المؤمن لا يفتر أبدًا عن حمل هم الدعوة حتى ولو كان على في مرض الموت.
(على فراش الموت) ووقع صلى الله عليه وسلم على فراش الموت، وعصب رأسه، وأخذت الحمى تنفضه عليه الصلاة والسلام، فكما
جاء عند الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله
الرضا ومن سخط فله السخط).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولا حزن ولا مرض، حتى الشوكة يشاكها
إلا كفر الله بها من خطاياه).
ويقول عليه الصلاة والسلام كما في كتاب الطب والمرض للبخاري: (إن المؤمن كالخامة من الزرع، لا تزال الريح
تفيئها يمنة ويسرة، وأما المنافق كالأرزة، لا تزال قائمة منتصبة حتى يكون انجعافها مرة واحدة).
المؤمن يحم، المؤمن يصاب ويمرض ويجوع، لكن المنافق يسمن ويترك حتى تأتيه قاصمة الظهر مرة واحدة.
ولا ذنوب له صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكن رفعت درجاته عليه الصلاة
والسلام، جاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:{دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يوعك -أي: في مرض موته- فمسسته بيدي- بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- فقلت:يا رسول الله! إنك توعك
وعكاً شديداً. قال: نعم. إني أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت: ذلك بأن لك الأجر مرتين يا رسول الله. قال: نعم.
ثم قال: ما من مؤمن يصيبه هم أو غم أو حزن أو مرض إلا كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها}.
فيا من ابتلاك الله بالمرض لا تيأس ولا تحزن واصبر واحتسب فإن هذا خير لك إذا صبرت واحتسبت ورضيت
بقضاء الله تبارك وتعالي.
فقد قال عليه الصلاة والسلام (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء
شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له). رواه مسلم.
فلا تحزن عبد الله إذا أصابك مرض وانظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يتألم كما يتألم الرجلان وهو من
هو، ورغم ذلك يبشرنا أيضًا وهو على فراش الموت فيقول
ما من مؤمن يصيبه هم أو غم أو حزن أو مرض إلا
كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها)
الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر.
ما أجملها من بشرى..
(قبل الوفاة بخمسة أيام) ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع وغمي، فقال: (هريقوا علي
سبع قِرَب من آبار شتي، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم)، فأقعدوه في مِخَضَبٍ، وصبوا عليه الماء حتى طفق
يقول: (حسبكم، حسبكم).
وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد متعطفاً ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسه بعصابة دسمة حتى جلس على
المنبر، وكان آخر مجلس جلسه، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: (أيها الناس، إلي)، فثابوا إليه، فقال ـ فيما قال:
(لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ وفي رواية: (قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا
قبور أنبيائهم مساجد) ـ وقال: (لا تتخذوا قبري وثناً يعبد).
خرج بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام على الناس، يقول ابن عباس كما جاء من حديث عبيد الله بن عبد الله بن
عتبة في الصحيحين: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، وهو عاصب على رأسه بعصابة دسمة، -
وقيل: سوداء- وهو بين علي والعباس، على كتفيهما رضوان الله عليهما، وأقدامه من المرض تخط في الأرض،
فأجلساه على المنبر، فلما رأى الناس قال: (يا أيها الناس: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. زاد البيهقي كما قال
ابن كثير: يا أيها الناس: إني ملاقٍ ربي، وسوف أخبره بما أجبتموني به، يا أيها الناس: من سببته أو شتمته أو
أخذت من ماله فليقتص مني الآن قبل ألا يكون درهماً ولا ديناراً، قال أنس: فنظرت إلى الناس وكل واضع رأسه
بين رجليه من البكاء، ثم قال عليه الصلاة والسلام: يا أيها الناس: اللهم من سببته أو شتمته أو أخذت من ماله أو
ضربته فاجعلها رحمة عندك} وعند أبي داود: {إني أخذت عند ربي عهداً أيما مسلم شتمته أو سببته أو ضربته،
أن يجعلها كفارة له ورحمة} فاستبشر الناس بهذا، وأخذوا يقولون: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! وعاد إلى
فراشه.
وعرض نفسه للقصاص قائلاً: (من كنت جلدت له ظَهْرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عِرْضاً فهذا
عرضي فليستقد منه).
ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولي في الشحناء وغيرها. فقال رجل: إن لي
عندك ثلاثة دراهم، فقال: (أعطه يا فضل)، ثم أوصي بالأنصار قائلاً:
(أوصيكم بالأنصار، فإنهم كِرْشِي وعَيْبَتِي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من مُحْسِنهم، وتجاوزوا
عن مسيئهم)، وفي رواية أنه قال: (إن الناس يكثرون، وتَقِلُّ الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي
منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم).
ثم قال: (إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده). قال أبو سعيد
الخدري: فبكي أبو بكر. قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا
وأمهاتنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أمنّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً
غير ربي لا اتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر).
وانظر إلى حرصه عليه الصلاة والسلام من خلال تلك الوصايا الغالية التي أسداها لأصحابه الكرام وللأمة من
بعدهم وأيضا سماحته، وإرساء دعائم العقيدة الإسلامية الصحيحة وهو يودع أمته عليه الصلاة والسلام.