قدسية العلم الوطني
إنني إلى يومنا هذا، لا زلت أتذكر ـ جيدا ـ ذلك الموقف الذي حصل لي مع والدي رحمه الله, والذي ترك في حياتي بالغ الأثر لكونه لم يكن موقفا عاديا أبدا بل كان بالنسبة لي استثنائيا بكل المقاييس ؛ لأن محاولاتي لتفسيراته وتأويلاته وسعيي الدؤوب للوصول إلى مراميه ظلت تلازمني ردحا من الزمن. هذا الموقف ـ باختصار شديد ـ يعود إلى واقعة حدثت معي وأنا لم أتجاوز حينها سن الخامسة من عمري، كان ذلك بالتحديد في سنوات السبعينيات، وبالضبط في مدينتي ـ تمنراست ـ المدينة الهادئة والبعيدة جغرافيا بحوالي 2000 كلم عن الجزائر العاصمة، وقد تمثلت تلك الواقعة في أنني في يوم من الأيام كنت العب ببعض الأشياء الموجودة في منزلنا كعادتي، وتناولت ذلك اليوم قطعة قماش نصفها ابيض ونصفها الآخر أخضر يتوسطهما رسم لنجمة وهلال لونا بالأحمر كانت مخبأة جيدا وموضوعة في مكان خاص من بيتنا المتواضع، وهو المكان الذي كان يوضع فيه آنذاك كل الأغراض التي تحمل قيمة كبيرة، عثرت عليها بالصدفة طبعا, ولم أبذل جهدا كبيرا لكي أدرك أنها علم بلادي الجزائر الحبيبة, لأن الكل في بلدتي كانوا يعرفونه، كبارا وصغارا نساء ورجالا، فقد كان يحظى لدى الجميع باحترام وحب خاص. تناولت ذلك العلم وأخذت أتعامل معه كما كنت أتعامل مع جميع الأشياء التي كنت ألعب بها في السابق، كنت أرفعه وأحركه في الهواء يمينا ويسارا، مقلدا ما كان يفعله الكبار الذين رأيتهم يفعلون هذا في العديد من الاحتفالات والمناسبات الوطنية،إلى أن مسك في وتد كان مغروسا في الحائط الطيني في إحدى زوايا البيت حيث علق به. أردت أن انزعه بقوة فتمزق قليلا، حملته مسرعا لأريه لأبي الذي عودني على مصارحته بأي شيء أفعله حتى ولو كان غير سوي،وتعود مني هو أيضا على تمزيق الأشياء وتكسير الأغراض التي كان يدخر من أجرته المتواضعة لشرائها أشهر وفي بعض الأحيان سنوات، وفي ذهني أن يكون رده هو نفس الرد الذي تعودت عليه دائما حين كنت أمزق الأشياء أو اكسر الأغراض، كان لا يبالي إطلاقا بذلك الشيء وإنما ينصب قلقه وخوفه علي ويبدأ بتفحص يدايا وأجزاء جسمي بقلق وتوتر وهو يقول: لا باس هل أنت سليم ؟، ثم حين يتأكد من سلامتي كان يقول قولته التي تعودت عليها دائما: (الحمد لله أدات البأس إنشاء الله)، وهي كلمة عامية تعني أن الشيء الذي كسر يكون قد أخذ باسا أو شرا كان من الممكن أن يلحق بأحدنا فذهب ذلك الشيء فداء لنا.
كان هذا ظني ولكنه خاب خيبة شديدة هذه المرة فما أن رأى أبي ذلك العلم وهو ممزق حتى تبدلت تقاسيم وجهه كلية وثارت ثورته ولم ينظر إلي مطلقا، بل نزع مني ذلك العلم بشدة ودفعني حتى كدت أن أسقط على ظهري ومسك ذلك العلم بين يديه وأخذ يتفحصه وهو يؤنبني تأنيبا شديدا جدا. كنت أقف مشدوها لأنني لم أره قط في مثل ذلك الحزم وتلك الشدة وعدم التسامح معي لم افهم شيئا حينها, لم افهم لما كل هذا التحامل علي من أجل العلم الذي وإن كان علم بلدنا، فتمزيق جزء منه ـ حسب رأي آنذاك ـ لا يستحق كل تلك المعاملة القاسية من أب نحو ابنه الصغير والوحيد المدلل الذي كان يفعل كل ما يحلو له، وكان يكسر ويمزق العديد من الأشياء الثمينة والنادرة جدا في تلك السنوات، ولم يتعرض ولو لأبسط نظرة تدل على استهجان ما فعل.أدركت من خلال ذلك أنني ربما أكون قد اقترفت ذنبا كبيرا جدا لا يمكن غفرانه، ولكن لم اقتنع أبدا حينها بردة الفعل تلك التي لم أجدها تتناسب ـ مطلقا ـ
مع تمزيقي لتلك القطعة القماشية التي لم تكن نادرة الوجود حينها، بل بالعكس كانت هي الوحيدة الموجودة في كل بيت، فربما قد لا تجد في بيت من البيوت مزود القمح أو قارورة الزيت،أو حصير الضيافة، ولكن من سابع المستحيلات أن لا تجد فيه تلك القطعة القماشية وهي العلم، فقد كان الشيء الوحيد الموجود في كل بيت في تلك الفترة، وكان من أسهل الأشياء التي يمكن الحصول عليها فقد كانت تمنحه البلدية مجانا، وكان الخياطون في أغلب الأحيان لا يتقاضون عليه أجرا إذا أردت خياطته عندهم مراعاة لقدسيته، وكان كل جار أو صديق مستعد أن يمنحك واحدا مجانا في حالة ما إذا كان عنده زيادة منه. هذا كله جعلني أغتاض غيضا شديدا من تصرف أبي غير المبرر في نظري آنذاك.
مرت الأيام والأشهر والسنوات ودخلت المدرسة وتدرجت فيها من طور إلى آخر ؛ ابتدائية، متوسطة، ثانوية، جامعة،و كنت أدرك شيئا فشيئا كل ما مرت الأيام صحة موقف والدي رحمه الله، وأدركت أن تلك القطعة التي تبدل مزاج أبي كلية عند تقطيع جزء منها لم تكن مجرد قطعة قماش عادية، بل هي علم لدولة ورمز لوطن وضمان لوحدة وأن تلك الألوان الثلاثة التي شكل منها هذا العلم لم تكن اعتباطية بل كان لكل منها دلالة، وأن وجوده في كل بيت من بيوتات البلدة لم يكن مجرد صدفة بل كان ثقافة وطنية عميقة وراسخة، وأن المحافظة الشديدة التي كان يحظى بها، والتي كنت أراها مبالغا فيها إنما هي من قبيل الإدراك انه رمز الوحدة الوطنية وأن المحافظة عليه هي محافظة على هذا الوطن. إذن فقدسية هذا العلم لم تأت لمجرد أننا أردناه أن يكون مقدسا بل بالعكس كانت قدسيته أمرا مفروضا علينا بحكم دلالاته وإيحاءاته، وكذلك رمزيته للمواطنة التي تبقى الشيء الوحيد الذي يوحدنا، والشيء الوحيد الذي لا يمكن أن نختلف فيه, مهما كانت، أو بلغت اختلافاتنا الإيديولوجية أو البيولوجية أو السوسيولوجية، وتبقى ـ كذلك ـ الضمانة الوحيدة التي يمكن من خلالها أن تبنى عليها الدولة كدولة، والقبيلة كقبيلة، والعرش كعرش والفرد كفرد، فلا يمكن أن نحافظ بتاتا على القبيلة بالقبلية أو على العرش بالعروشية أو على الطائفة بالطائفية، أو على الجهة بالجهوية, أو على الفرد بالفردانية, فلا يمكن لنا المحافظة على كل هاته الكيانات البسيطة دون أن يكون انتمائنا للوطن أولا، فمن خلال هذا العلم الذي يمثل المسلمة المتفق عليها، والمنطلق الأساس والأول الذي يجب أن ينطلق منه كل جزائري مهما كان لونه أو عرقه أو انتمائه السياسي أو العقائدي أو الإيديولوجي كأول درجة في الترتيب السلمي الصحيح لأولويات انتمائه حتى لا يخلط بين الأصل والفرع، وحتى لا يقع في شرك العكس بين درجات الأولويات ؛ فيجعل الأصل فرعا والفرع أصلا ؛ فالأصل دوما وأبدا هو الانتماء للوطن أولا، والفرع دوما هو بقية الانتماءات الأخرى كالانتماء للعرش أو القبيلة أو الجهة…الخ، والتي يجب أن لا يفهم منها البتة أنها تقسيمات لرفعة جهـــة على جهة، أو دونية جهة على أخرى، أو أنها تقسيمات للفرقة ونبذ الآخر، وإنما يجب أن يفهم منها أنها تقسيمات للتنوع الحميد الذي إن دل على شيء فإنما يدل على الثراء البشري والثقافي لهذه الدولة
إن هذه الدلالات العميقة للعلم والوطن كانت مرجعية أبي في سلوكه معي، الذي اعتبرته في فترة من الفترات ـ لجهلي ـ سلوكا لا ينبغي أن يكون من أب اتجاه ابنه الوحيد، ولكن بعدما فهمت مبرر غضب أبي مني وتأنيبي بتلك الطريقة الصارمة، وأدركت أن ألأمور التي تتعلق بعزة الوطن وكرامته ووحدته هو خط أحمر لا يجوز تجاوزه ولا يجوز فيه التسامح إطلاقا من أي كان نحو أي كان ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو عشيرتهم، زاد احترامي لأبي وعظمته في عيني أضعاف أضعاف احترامي وتقديري له، وزاد احترامي له ـ أيضا ـ أضعاف أضعاف المرات التي لمته فيها على موقفه الســــابق مني بسبب تقديسه للعلم الوطني.
منقول
مهداه لكل مواطن في كل بلد